"الإِلهُ الأخلاقيّ" وقداسة الحياة.. دراسة مقارنة بين القرآن الكريم والكتاب المقدّس


مصدر الصورة

ترجمة حسن الصرّاف


تتضمّن هذه المحاضرة[1] خمسة مباحث واستنتاجًا، على النحو الآتي: الله تعالى الإِله الأخلاقي، حرمة الحياة وقداستها، الحرب الدفاعية الأخلاقية الحرب الوحيدة المسموح بها في الإسلام، وصايا يهوه في الكتاب المقدّس لمواجهة أعداء بني إسرائيل، وتبريرات علماء اللاهوت اليهود والمسيحيين حول وصايا يهوه المعارضة للأخلاق.

المبحث الأول: الله، إِلهٌ أخلاقيّ

إنَّ الإِلهَ الذي يعرّفه القرآن، وهو بالطبع إله كلّ الأديان الإبراهيمية، هو إلهٌ ملتزم بالموازين الأخلاقية. ما أقصده من الموازين الأخلاقية هي الموازين نفسها التي فُطِرَت عليها طبيعة الإنسان، ويميل إليها الضمير الإنساني، ويدركها العقل البشري الذي وهبه الله تعالى.

﴿فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَٰلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾ (الروم: ۳۰(، ﴿وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا ۝ فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا ۝ قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا ۝ وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا﴾ (الشمس: 7-10(.

وبهذا فإنَّ الله تعالى خلق الإنسانَ أخلاقيًّا، وقد أمره بمراعاة الموازين الأخلاقية: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾ (النحل: ۹۰).

إذا كان الإله الذي يأمر بالعدل والإحسان وينهى عن الشرور والظلم غير ملتزم بهذه الموازين الأخلاقية فسيكون مشمولًا بهذه القاعدة الأخلاقية المحكمة التي أمضاها في القرآن: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ ۝ كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ﴾ (الصف: 2-3) فالقائل غير العامل [بِكلامِهِ] مذموم عقلًا ونقلًا، سواء أكان متمثلًا بالذات الربوبية أو بمخلوق مربوب. والقولُ المرافق لِلعمل كمالٌ، ومن المحال أن ألا تشتمل الذات الربوبية التي تمثل مجمع الكمالات كافة على مثل هذا الكمال.

إضافة إلى ذلك فإنَّ الأخلاق ليست أمرًا فوق العقل أو غير منسجم مع العقل حتّى نضطرّ إلى القول بوجود أخلاقَين: أخلاق المربوبين والمخلوقات، والأخلاق الربوبية. ومن الواضح أنَّ حدود البحث هي علم الإنسان، وإنَّ حدود الأخلاق أمرٌ يدركه عقلُ الإنسان، وخاصّة أنّه شأن يمكن تجويزه لـ«نوع الإنسان». أمّا ما يختصّ بالموارد والأشخاص، من قبيل الأمر الإِلهي الخاص إِلى إبراهيم خليل الرحمن بذبح ابنه على وجه الابتلاء والاختبار (الصافات: 101-109)، أو قتل الغلام على يد العبد الصالح (الخضر) في مواجهة النبيّ موسى (الكهف: 74-81) باعتبار ارتكاب الجريمة في المستقبل، كلّ ذلك خارج عن دائرة هذا البحث، وذلك لسببين: أولاً، لأن هذا الموضوع لا يمكن تعميمه على نوع الإنسان، وثانيًا: لأنه يتجاوز عقل الإنسان.[2]

من جملة الشواهد القرآنية الدالة على الإله الأخلاقي صدقُ الله وعدله وإلزام نفسه بالرحمة، وتبنّي قاعدتَي «مسؤولية كلّ فرد أمام ذنبه» و«قُبح العقاب بلا بيان». ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا﴾ (النساء: 122(، ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِن تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِن لَّدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا ﴾ (النساء: 40(، ﴿وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَىٰ نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِن بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴾ (الأنعام: 54(، ﴿مَّنِ اهْتَدَىٰ فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّىٰ نَبْعَثَ رَسُولًا﴾ (الإسراء: 15(.

ثمّة شواهد كثيرة في القرآن الكريم تدلّ على أخلاقية الإله، وهذه مجرّد نماذج منها.

 

المبحث الثاني: حرمة الحياة وقداستها

نوّه القرآن الكريم بحرمة الحياة وقداسة حياة الإنسان بوصفهما مبدئَين أصيلين، ولم يجوّز إزهاق روح الإنسان إلا بالحقّ (في ثلاثة موارد فقط: القصاص في جريمة القتل العمد، وعقوبة المحاربة والإفساد في الأرض: أي سلب الناس أمنَهم بقوّة السلاح، والقتل في الحرب الدفاعية).

﴿وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَن قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِف فِّي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنصُورًا‎﴾ (الإسراء: ۳۳). وبالطبع القصاص في القتل المتعمد مجرّد خيار، فثمّة خيار ثان وهو أخذ الدية، والخيار الثالث هو العفو.

﴿مِنْ أَجْلِ ذَٰلِكَ كَتَبْنَا عَلَىٰ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِّنْهُم بَعْدَ ذَٰلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ﴾ (المائدة: 32).

تمثّل هذه الآية أوضح دليل قرآني على حرمة الحياة. إذ إنّها نصّت على أمرَين: أولًا، حُرمة القتل وإزهاق الروح إلا في موردَين، وبالطبع بحكم مِن محكمة صالحة: قتل النفس والإِفساد في الأَرض (وقد تمّ التعريف بذلك بدقّة في آيات أخرى وفي السنة المعتبرة وفي الفقه)، وثانيًا: أنَّ قتل البريء يعادل قتل الناس جميعًا، وإحياء فرد واحد يعادل إحياء الناس جميعًا. فالإِله الأخلاقيّ لم يجوّز قتل أيّ إنسان بريء.

يقول الإمام علي (ع) في عهده إلى مالك الأشتر النخعي المذكور في نهج البلاغة، الذي يُعدّ بعد القرآن الكريم أعظم وثيقة في الأخلاق السياسية في الإسلام على الإطلاق: «إِيَّاكَ وَالدِّمَاءَ وَسَفْكهَا بِغَيْرِ حِلِّهَا، فَإِنَّهُ لَيْسَ شَيْءٌ أَدْنَى لِنِقْمَة، وَلاَ أَعْظَمَ لِتَبِعَة، وَلاَ أَحْرَى بِزَوَالِ نِعْمَة، وَانْقِطَاعِ مُدَّة، مِنْ سَفْكِ الدِّمَاءِ بِغَيْرِ حَقِّهَا. وَاللهُ سُبْحَانَهُ مُبْتَدِئٌ بِالْحُكْمِ بَيْنَ الْعِبَادِ فِيمَا تَسَافَكوا مِنَ الدِّمَاءِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ؛ فَلاَ تُقَوِّيَنَّ سُلْطَانَكَ بِسَفْكِ دَم حَرَام، فَإِنَّ ذَلِكَ مِمَّا يُضْعِفُهُ وَيُوهِنُهُ، بَلْ يُزِيلُهُ وَيَنْقُلُهُ. وَلاَ عُذْرَ لَكَ عِنْدَ اللهِ وَلاَ عِنْدِي فِي قَتْلِ الْعَمْدِ، لأنَّ فِيهِ قَوَدَ الْبَدَنِ[3] ».

 

المبحث الثالث: الحرب الدفاعية الأخلاقية، الحرب الوحيدة المسموح بها في الإسلام

إنَّ الجهادَ لمواجهة العدوّ الخارجي أو القتال في القرآن الكريم مقيّدٌ بقيدَين حتميَّين: أولًا، أن يكون دفاعيًّا وفي مواجهة تعدّي العدوّ على الدين أو على الأرواح والأعراض أو بلاد المسلمين، وثانيًا: أن تُراعى فيه الحدود الإلهية، وفي مقدمتها الأخلاق. إذن الحرب الهجومية [الابتدائية] بحجّة توسيع الإسلام، أو إدخال الناس إلى الإسلام عنوةً، أو التعدّي على بلاد الآخرين، أو التعرّض إلى الأرواح والأَعراض، كلّ ذلك محظورٌ بتصريح من القرآن الكريم. سأشير في هذا الصدد إلى بعض الأدلة القرآنية، وأقول "بعضها" لأنَّ الآيات القرآنية حول هذا الموضوع كثيرة.

﴿وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ﴾ ‎(البقرة: ١٩٠).

القتال في سبيل الله مقيَّدٌ بقيدَين واضحَين، أولًا: قتال مَن اعتدوا عليكم، أي الدفاع المشروع عن أنفسكم، وثانيًا: وجوب الالتزام بالعدالة والإنصاف، أي الإلزام بالأخلاق.

﴿وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَٰذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ وَلِيًّا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ نَصِيرًا﴾ (النساء: 75).

تحثّ هذه الآية على الجهاد الدفاعي، وتحديدًا الدفاع عن المستضعفين، وعمّن لا ملجأ لهم، ولا سيما الأطفال والنساء والرجال المدنيين والأبرياء الذين لا ناصر لهم سوى الله، وأصبحوا معرَّضين لظلم الظالمين. وقد اخترتُ هذه الآية ليتضح أنَّ القرآن الكريم قد أولى اهتمامًا بالغًا لمراعاة حقوق الأطفال والنساء والرجال الأبرياء وغير العسكريين، ولا سيما في سياق الحرب. حتّى إنّه أجاز الجهاد وخوض الحرب الدفاعية من أجل الدفاع عن حقّهم في الحياة والأمن.

أمّا الآية التي عُرِفَت بآية السيف[4]، وصارت منذ قرون عدّة ذريعةً ومبررًا لِنسبة «الحرب الهجومية [الابتدائية] من أجل نشر الإسلام» إلى القرآن، فهي الآية الخامسة من سورة التوبة: ﴿فَإِذَا انسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِن تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ (التوبة: 5).

 

أُلفِت انتباهَكم إلى تفسير أحد المتخصصين في الدراسات الإسلامية المعروفين، من المنتمين إلى التيار الداعي إلى إعادة النظر في أصول الإسلام[5]، وهو مايكل كوك (و: 1940) الأستاذ بجامعة برينستون، إذ قال في دراسته حول القرآن ضمن سلسلة «مقدّمة قصيرة جدًّا» (الصادرة عن جامعة أكسفورد: 2000، ص 34) في معرض تفسيره لهذه الآية:

«[بالاستناد إلى مفاد هذه الآية] عليكم قتل المشركين إلا إذا أسلموا. والمشرك هو من يجعل أحدًا أو شيئًا شريكًا مع الله. وتتسع هذه المفردة لِتشمل اليهود والمسيحيين أيضًا، بل إنها في الحقيقة تشمل غير المسلمين جميعًا[6] ». يرى كوك أنَّ هذه الآية يمكن مقارنتها مع الآية 16 من الباب العشرين في سِفر التثنية (التي سأشير إليها لاحقًا). وبهذا فإنَّ هذا الرأي يجعل القرآنَ متعارضًا مع التسامح الديني الحديث في المجتمعات الغربية التي تحترم أتباع سائر الأديان بدلًا من قتلهم[7].

إنَّ مايكل كوك، شأنه شأن كثير من المستشرقين وحتّى بعض المسلمين، لم ينتبه إلى أنَّ «ال» في لفظة «المشركين» هي «ال العهدية»، ولا تشمل سوى المشركين الذين وصفتهم الآيات السابقة، خاصةً الآية الأولى من سورة التوبة، ولا تعني جميع المشركين، فضلًا عن اليهود والمسيح وغير المسلمين جميعًا. أي أنّها تعني مشركي مكّة في السنة الثامنة للهجرة الذين عاهدوا النبيَّ والمسلمين في صلح الحديبية، ونقضوا هذا العهد مرارًا وتكرارًا، وكانوا يقتلون المسلمين في أثناء العبادة وحتّى في نومهم. لقد فصّلتُ القولَ في نقدِ رأيٍ مشابهٍ تبنّاه أحدُ المسلمين الداعين إلى إعادة النظر في الإسلام، وذلك قبل ثلاث سنوات في سلسلة محاضرات «إشكالية الإسلام والسلطة»[8]، ولكن -للأسف- لم يؤدّ ذلك إلى تصحيح هذا الخطأ الفادح.

على أيّ حال، وردت المبادئ القرآنية حول مواجهة غير المسلمين في هاتَين الآيتَين وبصريح القول والعبارات: ﴿لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ ....

لقراءة المقال كاملا إضغط هنا للذهاب إلى الموقع الرسمي

إقرأ أيضا